كلمة الأمين العام لنادي القضاة الموريتانيين في حفل افتتاح منتديات العدالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
صاحب الفخامة، السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء
السيد وزير العدل، نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء وحافظ الخواتم،
السادة أعضاء الحكومة
السيد رئيس المحكمة العليا
السيد المدعي العام للمحكمة العليا
أيها السيدات والسادة
السلام عليكم ورحمة الله
لقد شهدت بلادنا، منذ العام 83 من القرن الماضي، خمس محاولات تفاوتت في مخرجاتها، وفي تحقيق الأهداف التي رسمتها، ولقاؤنا هذا يأتي بعد مرور أكثر من سبعة عشر عاما على آخر محاولة لإصلاح العدالة وتطويرها، لكي تواكب التحولات الكبيرة التي تشهدها بلادنا والعالم من حولنا.
ونرجو أن تحقق هذه المنتديات ما عجزت عنه سابقاتها، من تشخيص للواقع واقتراح للحلول. كما نأمل أن تطبق السلطات مخرجات هذه المنتديات، بما يحقق الأهداف المرجوة من وراء هذا الجهد الكبير.
ولأن نادي القضاة الموريتانيين قد تقدم بملاحظات مكتوبة، تضمنت -بالتفصيل- رؤيتنا للإصلاح، فإنني لن أطيل عليكم في هذه المداخلة المتواضعة، التي يشرفني أن أكون فيها ممثلا لقضاة موريتانيا حرسها الله.
وسأكتفي بكلمات ثلاث:
● أولاها موجهة إلى الشعب والأمة؛
● والثانية موجهة إلى زملائي القضاة وأعوان القضاء؛
● وثالثة الأثافي: كلمة موجهة إلى صاحب الفخامة، السيد رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء.
فأقول لشعبنا الأبي وأمتنا العظيمة:
إن قوانيننا الوطنية المستنبطة من شريعتنا الغراء، تُلزم الدولةَ بتهيئة ظروفٍ يمكن في ظلها أن تسود العدالة، كما تُلزم القضاة بالعدل والقسط وصونِ الحريات العامة، وحماية الحريات الفردية، والانتصار لمبادئ العدالة والحق والإنصاف.
وإننا إذ نعاهد الله، ونعدكم: بأن لا ندّخر جهدا في تحقيق ذلك.. لَنُذكّرُ المواطنين والمواطنات بأنْ “لا عذر لأحد في جهل القانون”، وبأن {من يعمل سوءا يجز به}، وبأن القاضي إنما يحكم بالبينات: “فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمع”.
فالتمسوا لقضاتكم العذر؛ إذا لم تسعفكم بيناتكم وحكم عليكم قضاتكم.. فإنما هم ملزمون بتطبيق النصوص، وتلك فيها: أن “البينة على المدعي”.
وإذا سمعتم بأن سلطات الأمن (مثلا) قبضت على متهم وأن القاضي أطلق سراحه: فاعلموا أن ذلك لعدم كفاية الأدلة، لأن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، والقضاة ملزمون بحماية حريات الأفراد وعدم تقييدها إلا بالقانون، وهم حريصون على عدم الخطأ في العقوبة؛ حِرصَهم على عدم إفلات الجناة من العقاب.
حفظ الله موريتانيا وشعبها، وأدام عليها الأمن والأمان.
وأنتم، أيها السادة القضاة، والعاملون في المحاكم، ويا شركاء القضاة ويا أعوان القضاء:
اعلموا أن شراكتكم الحقيقية يجب أن تتمثل في العمل لإيجاد نظام قضائي يضمن الحقوق ويحمي الحريات، ويكرس الأمن القضائي، ويدعم الاستقرار والاستثمار، بِعَدْلِ أحكامه ونجاعة إجراءاته/ وبساطة مساطره وسهولة الولوج إليه.
فاتقوا في الله في هذا الوطن، وأدوا واجباتكم، بانضباط مهني، وتفان وإخلاص في العمل، وجودة في الأداء، ووفاء لأخلاقيات المهنة، ومزيد من النجاعة.. فإن منظومة العدالة في الوقت الحالي تواجه تحديات صعبة ولا أضرَّ علينا من أن يكون فينا شركاء متشاكسون. فاعملوا بروح الفريق، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين}.
وأنتم يا سادتي القضاة،،
تذكروا أن ثقة المتقاضين لا تنال إلا من خلال استقامتكم وتَحلّيكم بالنزاهة والتجرد والاستقلال والصمود في وجه كل دخّل مهما كان مصدره.
ولا يغبْ عن أذهانكم أنكم عن الله موقّعون، وباسم الله العلي العظيم حاكمون، وأنكم أنتم حماةُ النظام العام، ورعاة الحقوق والواجبات.. وأن حقوق الناس وحرياتهم ودماءهم وأموالهم وأعراضهم… أمانة في أعناقكم، وأنكم -قبل غيركم- مسؤولون عن حسن سير العدالة، وعن ضمان شروط المحاكمة العادلة، فاحرصواعلى التطبيق السليم للقانون واتقوا الله وتشبعوا بقيم العدالة.. فبذلك تزرعون الثقة في المتقاضين؛ فيطمئن الناس إلى عدالتكم، ويرضون عن أحكامكم وقراراتكم.
صحيح أنكم مقيدون بواجب التحفظ، وينتقدكم كل من هب ودب.. وتُحَوَّلون تعسُّفا إلى مناطق نائية، دون مراعاة ظروفكم العائلية.. ولكنكم حين تنظرون إلى وظيفتكم من زاوية خدمة الوطن العزيز، وانتظار الأجر من الله، وتتذكرون حديث: “عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة”.. فحينئذ:
“قد يهون العمر إلا ساعة •• وتهون الأرض إلا موضعا”.
{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}
و {كونا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}.
وكلمتي الثالثةُ والأخيرة: موجهة إليكم يا صاحب الفخامة، رئيس الجمهورية، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، أسأل الله تعالى أن يرزقكم البطانة الصالحة التي تأمركم بالمعرف وتحضكم عليه.
أتوجه إلى فخامتكم، باسم زملائي القضاة، بالشكر الجزيل.. أشكركم، وأشكر وسيطنا إليكم صاحب المعالي السيد وزير العدل وحافظ الخواتم، على ما تحقق في هذا العهد الميمون من اعتناء بالسلطة القضائية.. بعد أن ظلت المحاكم وظل القضاة منذ العام 2009 يشكلون استثناء وليسوا ضمن الخطط التنموية.
واليوم، سمعنا عن بدء العمل في بناء بعض قصور العدل، ونرجو أن يشمل ذلك الاهتمام جميعَ المحاكم في ربوع الوطن الغالي.
كما نثمن ما تحقق من مزايا مادية ومعنوية، رغم أنها ما زالت بعيدا من المأمول. فالقضاء الذي نص الدستور على أنه سلطة، وهو في دولة القانون ركيزة أساسية، ومنه تستمدون شرعيتكم السياسية.. لا يمكن أن يظل في وضعيته الحالية. وهذا ما يبدو أنكم أدركتموه، فأصدرتم توجيهاتكم بعقد هذه المنتديات.
كما نطالب بتعديل الدستور، وبدسترة حقوق القضاة، على غرار جيراننا الذين يخصصون للسلطة القضائية في دساتيرهم ما لا يقل عن عشرين مادة، بينما يكتفي دستورنا بثلاث موادَّ لا رابع لها، وفيها مقتضيات لم تطبق على أرض الواقع حتى الآن!
وأما النظام الأساسي للقضاء فقد اتسع الخرق فيه على الراقع وصار لزاما استبداله بقانون نظامي يساير العصر ويوافق الدستور.
كما نطالب بتنفيذ الأحكام القضائية، “فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له”، كما جاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما.
ثم إننا يا صاحب الفخامة لا ندري كيف خَلَتْ من القضاة مؤسساتٌ كانت على مدى العقود الماضية عامرة بالقضاة، وربما ترأسوها فترات طويلة، كالمجلس الدستوري، ولجنة الفتوى والمظالم والجريدة الرسمية وإدارة التشريع.. وكلها الآن خالية من القضاة!
وأما ما شهدناه في الفترات القليلة الماضية من تغول على السلطة القضائية من قِبَل ضرّتيها، فلم يسبق له مثيل!
وبصفتكم الضامن لاستقلال القضاء: فإننا نطالبكم بأن لا تتساهلوا مع كل تسول له نفسه المساسَ بهيبة السلطة القضائية، إذ لا مستقبل لأمة لا تحترم قضاءها. مع أهمية تفعيل مبدأ المكافأة والعقوبة، وتطبيقه على جميع الموظفين.
وكما تعلمون، فإن للاستقلال مظاهر متعددة، منها ما هو مادي وما هو معنوي، وكلاهما بحاجة إلى لفتة كريمة من فخامتكم، ونحن واثقون من أنكم لن تخيبوا أملنا في ذلك.
وأهم من هذا كله أولئك القضاة المتقاعدون الذين مكثوا طيلة حياتهم المهنية ممنوعين من التربح، ثم يُرمى الواحد منهم على قارعة الطريق بعد ما قدم من خدمات جليلة للبلاد والعباد، بينما ينعم آخرون بوظائف مريحة في مجلس إدارة هذه المؤسسة أو تلك. فأيَّ عدالة نريد!؟
إننا لا نطالب بمجاراة بريطانيا التي لا يتقاضى كبار قضاتها رواتب، ولا الولاياتِ المتحدة الأميركية التي يعين قضاة المحكمة العليا فيها مدى الحياة.. وإنما لدينا مطالب مشروعة تتمثل في تعديل نظامنا التقاعدي، بحيث يبقى للقاضي ثلاثة أرباع راتبه الإجمالي على الأقل، لما في ذلك من حفظ لماء وجهه، وإعانة له على النزاهة والاستقلال خلال أداء مهامه الوظيفية، لكي يتقاعد حين يتقاعد وهو مطمئن البال على مستقبله ومستقبل العيال.
ولأننا نعلم صدق توجُّهكم، وبأن لديكم إرادة حقيقية للإصلاح: فإن لدينا أملا كبيرا في تصحيح هذا الخلل، وفي مأسسة المجلس الأعلى، وجعله مجلسا أعلى للسطلة القضائية، تتبع له المفتشية العامة للإدارة القضائية والسجون. وقد تقدمنا في نادي القضاة بمقترحات تفصيلية بهذا الشأن، نحيل إليها، ولا نطيل عليكم فنرجو أخذها بعين الاعتبار.
كما أن من المهم جدا إنشاء مركز للدراسات والبحوث القانونية والقضائية، يعمل فيه بعض القضاة وكتاب الضبط والمحامين والقانونيين، لرفد منظومتنا بآخر ما أنتجه الفكر البشري في مجال تخصصاتهم، وترجمته إلى اللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للدولة، فلعل ذلك يكون أفضل طريقة لتلافي ضمور الثقافة القانونية في بلادنا.. لعل وعسى أن يكون لنا اجتهاد قضائي وطني حقيقي.
والله يكلؤكم بحفظه ورعايته، ويوفقكم لما فيه صلاح البلاد والعباد، ويبعد عنكم بطانة السوء.
واسمحوا لي أن أختم مداختي هذه بقصيدة كنت قد أسمعتكم إياها، خلال استقبالكم إياي، في القصر الرئاسي، صحبة سادتي الأمناء أعضاءِ المكتب التنفيذي لنادي القضاة. وما زلنا نطالب بتطبيق ما تضمتنه هذه القصيدة من مطالب، لا خيب الله لنا أي رجاء.
نُـرِيـدُ قَـضَـاءً مُسْـتَـقِـلاّ ً بِـذَاتِـهِ *** يُـنَـافِـسُ، مَرْفُوعَ الجَنَاحِ، لِـدَاتِـهِ
وَيَـعْـدِلُ.. لا يَخْشَى تَـغَـوُّلَ سُـلْـطَـةٍ *** عَلَيْهِ.. ويُـعْـطَـى مُـبْـتَـغَـى أَدَوَاتِـهِ
فَيَحْمِي حُقُوقَ الناسِ؛ في ظِلِّ دولةٍ *** تُـنَـفّـِـذُ أحْـكَـامَ الْـهُـدَاةِ قُـضَـاتِـهِ
فإنْ يُـعْـطَ الاِستقلالَ و”الفصلَ” كاملاً *** عن السُّلُطاتِ الآخِذَاتِ هِـبَـاتِـهِ
يَـعِـشْ وَطَـنِـي بَـيْـنَ المدائن شَامِخاً *** وَقَدْ يَسْـتَـتِـبُّ الأمْنُ في جَـنَـبَـاتِـهِ
ويَنْهَالُ الاِسْـتِـثْـمَارُ.. والْـفَـقْـرُ يَـمّـحِـي *** ويَـبْـلُـغُ شَـعْـبِـي مُـنْـتَـهَـى رَغَـبَـاتِـهِ
وَمَنْ يَـكُـنِ العدلُ الأساسَ لِـمُـلْـكِـهِ *** يَـعِـشْ مُـطْـمَـئِـنّ َ الْـبَـالِ طُولَ حَـيَـاتِـهِ
وإن تَـكُـنِ الأُخْرَى؛ فَـيَـا وَيْـحَ أُمَّـةٍ *** بها اسْتَحْكَمَ الشَّيْطَانُ فِي نَـزَغَـاتِـهِ
نَـعُـوذُ بِـرَبّ الناسِ مِـنْ كُـلّ ِ فِـتْـنَـةٍ *** ونَسْأَلُ رَبّ َ الْـعَـرْشِ مِـنْ نَـفَـحَـاتِـهِ
بِـجَـاهِ رَسُولِ اللّـهِ خَـيْـرِ قُـضَـاتِـنَـا *** عَـلَـيْـهِ مِـنَ الرَّحْـمَانِ أزْكَى صَـلاَتِـهِ
والسلام عليكم/ ورحمة الله وبركاته